اخبار

سوريا.. وحطام غزة – سما الإخبارية

بقلم صحافي وكاتب سوري رائف مرعي

ثمة فرضيتان، مؤهلتان لنقاش مفتوح، لدى النخب في البنى والتيارات السياسية السورية بشأن أحداث غزة، منذ ما بعد أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

منشأ الفرضية الأولى أملته “الإستراتيجية السورية المتأنية” للإمساك باللحظة السياسية في ذروتها، التي بلغتها مع انخراط (توريط) تل أبيب في معركة لا يستطيع معسكر الحرب في إسرائيل كسبها بوضوح، ولا الخروج منها إلى سلم قائم على المساومة؛ خشية الظهور بمظهر الأكثر ضعفًا على المستويين الداخلي والخارجي.

الفرضية الثانية أحدثها التصور المستقبلي المرجح (الآن) بقوة، بشأن موقف وطبيعة الكون السياسي لـ”دمشق- تل أبيب”، الذي ربما سيكون هو روح فترة ما بعد “طوفان الاقصى”، وفارس الساعة لتوقيت الشرق الأوسط، وملفاته.

بين الفرضيتين (الصيغتين) السابقتين هامش متيسر، مستمر التمدد ببطء، حول “إستراتيجية انتقالية”، تحفزها فرص متبادلة في المنطقة، لم تكن متصورة من قبل، وتسمح بالطموح العقلاني لمصالح الجميع، وفق الشروط الدائمة والضرورية؛ لتجنب عمل عسكري فاضح، لا داعي له مرة أخرى هنا.

وإذا كان ما حصل صبيحة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت بمنزلة زلزال سياسي استخباري، أعاد ترتيب المشهد في إسرائيل، فإن الصراع في الشرق الأوسط أصبح شديدًا، ومعقدًا جدًّا، إلى درجة أن السؤال لكل مشترك فيه، لم يعد مَن سيربح؟ بل مَن سيخسر بدرجة أقل؟

يشكل هذا المنطلق الاستفهامي خلفية تحريضية ممكنة وناشطة لمنهج البحث في معالجة العقل السياسي السوري الجمعي مسائل المشهد المعاصر، انطلاقًا مما سمي- ترميزًا فلسطينيًّا- “طوفان الأقصى”، ولما اعتمدته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحت اسم “السيوف الحديدية”، وما اصطلح عليه في السياق الكامل لما جرى، ويجري حاليًا ، كأبعاد ونتائج، باسم “نكبة إسرائيل”، حيث تجد سوريا نفسها فوق ميراث سياسة خارجية، بفخامة تحسد عليها، معنية بالمعنى الفعلي لأي احتمالات مرجحة، وصياغات نهائية حاسمة، تتمخض عنها حرب غزة.

ولعل هذا ما نجد تفسيره في اتفاق “سايكس- بيكو  1916″، الذي يتمتع، من لحظة توقيعه إلى حين تنفيذه، بقوة افتراضية مجردة؛ لأنه تناول أمورًا ستقع، وبعبارة أخرى، صمم مستقبلًا قادمًا للإقليم.

فتلك القوة، التي لا بد أن تكون (غير ذاتية)، وفي (الخارج)، والتي أباحت لبريطانيا وفرنسا اقتسام الجغرافيا والبشر حتى قبل تحريرها من النظام العثماني، ترى في الاستباق أو التصميم الافتراضي الحاصل بموجب هذه الاتفاقية نوعًا من الافعال الاحترازية، التي يقوم بها “المصدر- الخارج” لحماية موضوعه: مصير المنطقة.

وقد تم تأكيد هذه الخاصية عبر “وعد بلفور- 1917″، الذي يتمتع أيضًا بقوة افتراضية تستهدف خلق “نموذج مصنع”، وتنفيذه بعد أن تتوافر له الظروف المواتية.

اللحظة الراهنة في الشرق الأوسط هي لحظة ارتفاع درجة فاعلية (المصدر- الولايات المتحدة) من كونه يمارس هيمنة تقليدية، نافذة، متحكمة، متعددة أوجه الإخضاع والتحكم- وهي حقيقة- إلى كونه يمارس تكريسًا خشنًا لها، من خلال نسف (إلغاء) غيرها؛ من خلال خلق استعداد عسكري عنيد في المنطقة، قاد إلى نقل مخزون احتياطي ضخم من العتاد والذخائر إليها؛ لتأسيس حالة إستراتيجية جديدة.

عند هذه الدرجة من الفاعلية، تكون عمليات ترويض الصراع، الكامن في الإقليم، الذي يشكل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي العمود الفقري له، قد حددت مجال فعلها، بما يطول أقصى جانب من الذات لدى جمهور الشارع العربي.

فالعنف غير المتكافئ، الذي تمارسه الميليشا الصهيونية على الغزيين، كفيل بتدشين ولوج حركات نضالية ناشئة، إلى جانب الإحياء الإسلامي (الجهادي)، والراديكالية العلمانية والفكرية غير المحدودة، مرحلة جديدة في شوارع العواصم بالشرق الأوسط، وإنزال الكوارث بمنطقة لم تتمكن أي قوة عظمى من تأكيد السيطرة عليها، وهو ما يضع العقل الذاتي العربي، وعلى وجه الخصوص السوري، بمخزونه التاريخي، وقدرته على النهوض، في مواجهة مسارات متشعبة، ومتشابكة، وطامحة إلى البقاء دومًا بجهود لم تستهدف سوى توفير الحراسة لأصول ذات قيمة إستراتيجية (إسرائيل)، أو اقتصادية (النفط)، لمنظومة لم تعد قادرة على الإقناع، وتجد ذاتها مضطرة إلى استعراض القوة تارة، واعتماد وسيلتي القهر والخداع تارة أخرى؛ من أجل بلوغ مآربها.

وفق هذا التصور القائم، يطرح نهوض (غزة)، بوصفها قوة وطنية، فرصة نادرة لإعادة تشكيل المشهد الإستراتيجي في الشرق الأوسط، وفي الآن نفسه، يهيئ سوريا لإعادة صياغة أسئلتها الذاتية، المكونة لمنطلقات مواجهتها الصراعية (معها وعليها)، التي أسست- ولا تزال تشكل- ملامح المشهد تاريخيًّا في الإقليم.

وهي (أي سوريا) الضامن الحقيقي لعدم تغييب تلك الحقبة الممتدة، ذات الاستهدافات المضمرة والمعلنة للقوى التاريخية في القضايا العربية، وتظل بشخصيتها الكيانية، تظلل المنطقة ورؤى شعوبها، بل تحمل شفرتها الصحيحة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى