اخبار

الحرب والأرقام والمرأة من غزة..غسان زقطان

طالت الحرب وكانت ستطول، وها هي تعد أيامها الطويلة، تذهب الأرقام بعيدا، الأرقام هي الكائنات القاسية التي تسعى منذ الساعات الأولى في الأرجاء، مثل مطالبة لا تتوقف بالحياة، أرقام الشهداء الذين استكملوا استشهادهم بعد سنوات الحصار، أو أولئك الذين لم يجر وضعهم في حفر جماعية، لم يخرجوا من تحت الأنقاض بعد ليتوجهوا إلى المقابر الجماعية، أرقام الجرحى والمفقودين الذين لم يتم العثور عليهم بعد، أرقام البيوت المحطمة والشوارع المقصوفة والمشافي التي انهارت خدماتها وفقدت غاياتها إلا من عناد العاملين فيها ووفائهم، أرقام اللاجئين الذين يتحركون مثل غيمة عظيمة قاتمة من حقائب الظهر وعربات الجر وعربات الأطفال والهيئات البشرية، غيمة هائلة تطوف في شارعين من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، أرقام الذين واصلوا، في تحد إعجازي، بقاءهم في مناطقهم وبيوتهم أو قربها كمن يحرس الحياة نفسها، أرقام الشاحنات القليلة التي تمكن العالم و”الأشقاء” بعد جهد من دفعها عبر معبر “رفح”، أرقام الأحياء الذين واصلوا حياتهم عبر ضربات حظ متلاحقة بينما يتراكم حزنهم ويهبط ألمهم على الأرض ليشققها، أرقام لكل شيء تنهض وتتكاثر وتتجول قبل أن تصب في خانات تكبر.
ستغذي هذه الحرب الألم الإنساني لأجيال كثيرة قادمة، وستبقى صور الفلسطينيين وهم يدفعون بأيديهم وأبنائهم الآلة العسكرية الفاشية الإسرائيلية عن أحلامهم وأطفالهم وحياتهم، عالقة مثل ذنب غير قابل للغفران في أعناق السياسيين الغربيين و”الأشقاء” وعلى قمصانهم وحقائبهم الدبلوماسية، وستحفظ أسماؤهم لتمريرها إلى الأجيال التي ستأتي بعد هذه الحرب، مثل لافتة تحذر المارة من الحفر.
ولكن في منتصف كل شيء سيسمع صوتها، المرأة الغزية الشابة التي سألها مراسل الفضائية عن رسالتها للعالم:
“ليس لدي رسائل، لا أريد أن أبعث رسالة، فلسطين لنا وحدنا والقدس لنا وحدنا، وسنعرف كيف ندافع عنها”.
ثمة خذلان عميق وألم جارف يتدفق من “الرسالة”، هي رسالة رغم كل شيء، لكنها بعفويتها تضع العالم في قفص وتحدق فيه.
هذا الإحساس المطلق بالملكية والكرامة يجعل منها ومن شعبها أميرة، ومن المقاومة بفضاءاتها المترامية من غزة والضفة وحملة الأعلام في شوارع العالم مملكة، ومثل يد لا تصرخ ونظرة لا تستغيث ستمحو بإشارة يدها تدفق الاستغاثات غير المقصودة بـ”العرب والمسلمين”، وستحرم، بإشارتها تلك، “المتعيشين على الموت” و”المتفرجين في العتمة” و”منتظري البرابرة” من بهجة الانكسار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى