اخبار

جرس الأوّل من أيار…!! حسن خضر

ثمة ما يبرر التوقف عند الأوّل من أيار، وشعاره الخالد “يا عمال العالم اتحدوا”.
أفعلُ هذا لأسباب غير متوقّعة. فالبعض يُذكّر بالمناسبة، وما وسم تاريخها من علامات فارقة. والبعض الآخر يَتذكّر بمزيج من المحاكاة، والنوستالجيا (أكثرها إثارة للشفقة بقايا أركيولوجية لما كان يساراً ذات يوم).
وما يندر، فعلاً، يتمثّل في إنشاء علاقة نقدية بهذا اليوم، والتفكير فيما يجعل، أو لا يجعل، منه صالحاً لزماننا. وإذا شئنا الكلام بتركيز أكثر: ما يجعل منه صالحاً للحواضر العربية في زمن الرأسماليات الصحراوية الطفيلية، وهنا مربط خيلنا.
ولنقل، بداية، إن طبقة ماركس العاملة لم يعد لها وجود، وإن ما يحظى به من يصدق عليهم التعريف التقليدي للطبقة العاملة، من حقوق وضمانات، في البلدان الرأسمالية نفسها، يفوق ما كان نوعاً من أحلام اليقظة في قرن مضى. ولنقل أكثر: إن الطبقة العاملة، بالمعنى التقليدي، ليس في بلدان الغرب الرأسمالي، بل وفي كل مكان آخر، ليست طبقة ثورية، بل محافظة (ورجعية)، وتمثّل كما هو الحال في الحواضر العربية رصيداً احتياطياً، وخزاناً هائلاً للمحافظة والرجعية، والميليشيات، والشعبويات.
ولنقل، أيضاً، إن الذائقة العامة تتغيّر من قرن إلى آخر. فكل كلام عن دكتاتورية البروليتاريا، وحزبها، يبدو نوعاً من الهراء في الوقت الحاضر. والأهم من هذا وذاك أن قيم التعددية الثقافية والسياسية، والحريات العامة، والفردانية، والتداول السلمي للسلطة، والدساتير، وحقوق الإنسان، تحظى بمكانة أرفع من الدكتاتورية، ونظام الحزب الواحد. والأكثر دلالة، في معرض الكلام عن هذا وذاك، أن الطبقة الوسطى، التي عاملتها الماركسيات المختلفة بقدر واضح من الارتياب، هي الحامل الموضوعي، هذه الأيام، لكل ما ذكرنا من قيم. كانت في ثلاثينيات القرن الماضي حاملة لقيم فاشية أشعلت النار في أوروبا. يعني الروافع الطبقية والاجتماعية تتغيّر، أيضاً.
وما دام الأمر كذلك (والأمر كذلك) فما قيمة الأوّل من أيار، وما الفائدة من الاحتفاء بهذه المناسبة، وشعارها الخالد؟ والواقع أن أسئلة كهذه هي ما يُمهّد الطريق لكل علاقة نقدية محتملة بالواقع. وما ذهبنا إليه من خلاصات أوليّة بشأن الطبقة العاملة في الماضي والحاضر، يندرج في إطار تمهيد كهذا. ومع هذا، في الذهن، نقترب من الكلام عن القيمة والفائدة.
ولا أعتقد أن ثمّة ممارسة نقدية أعلى وأغلى من تفكيك العلاقة العضوية بين أشياء ومفاهيم، تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، من نوع السوق، والسلطة (سلطة النظام السياسي، والثقافة السائدة) والتبادل، والإنتاج، والثروة. ولا معنى لتفكيك علاقة كهذه دون القبض على مفهومين مركزيين هما قوّة العمل، وفائض القيمة، ولا معنى لاستدعاء الاثنين دون محاولة الكشف عن سرقة من نوع ما. فالغنى، كما الفقر، صناعة اجتماعية، ولا علاقة لهذا أو ذاك بالصدفة والحظ.
ولو جعلت الجامعات في بلادنا من برامج من نوع “مَنْ سيربح المليون” مثلاً، موضوعاً لمساقات دراسية، عن قيم ومفاهيم الفقر والغنى، في أقسام الفلسفة، وعلوم الاجتماع، والتاريخ، والسياسة، والأدب، والنفس، سنصبح من روّاد العلوم الاجتماعية في الحواضر (صار الهنود روّاد دراسات الكولونيالية وما بعدها في العالم، وقد تفتح لنا دراسات الفقر والغنى نافذة في المشهد العالمي للعلوم الاجتماعية) ونخرج من هباء يُفسد العقول.
على أي حال، هذه أحلام يقظة، ولكن يمكن للقارئ ممارسة لعبة طريفة ومفيدة هي التوقّف دقائق قليلة في اليوم عند الإعلانات المرئية والمسموعة في منصّات ووسائل اتصال مختلفة، والتفكير في رسائلها الضمنية، وقياسها على قاعدتي العمل وفائض القيمة.
مع هذا المعنى في الذهن، وبه، لا يتجلى الأوّل من أيار بوصفة راهناً قائماً ومقيماً وحسب، بل ويتجلى كأداة لإنشاء علاقة ثورية بالواقع أيضاً. وبهذا نكون قد اقتربنا من صلاحيته وجدواه في زمن رأسماليات صحراوية طفيلية غازية تسعى للهيمنة على الحواضر الشامية والمصرية والعراقية والمغاربية واليمانية، على طريق تحويلها إلى سوق للاستثمار والنهب وتوريد الجنود والأيدي العاملة والمواد الخام، بالتعاون مع شركاء محليين. وهذا ما يعنينا.
وأود، هنا، الكلام عن العلاقة العضوية بين العمل، وفائض القيمة، وآليات الاستيلاء عليه، واستثماره، وقابليته للتحوّل، أو عدم التحوّل، إلى ثروة اجتماعية. تجلّت هذه العلاقة، على مدار قرون التراكم الرأسمالي، في صراع الإنسان ضد الطبيعة، والفتوحات الغربية، ونهب المستعمرات، وتحلل النظم الاقتصادية، وتمثيلاتها الاجتماعية، وصعود طبقات ومفاهيم وقيم جديدة.
التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية، وترجماتها السياسية المحتملة، لا تحدث بطريقة متساوية، أو متشابهة. ومع ذلك، فلنضع في الاعتبار أن ثروة النفط، التي اجتاحت الحواضر، نشأت في أماكن صحراوية في الغالب، وهي تمثل حالة غير مسبوقة في التواريخ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبني الإنسان، لأنها وقعت خارج الشروط الإلزامية للتراكم الرأسمالي: العمل (البدني والعقلي) تبدّل الطبقات الاجتماعية، الصناعات والعلوم، الثورات القومية والاجتماعية، حروب الحيتان الرأسمالية، الدستور والعقد الاجتماعي، وتداول السلطة. والأهم أن المراكز الأولى والرائدة للتراكم الرأسمالي نشأت في مراكز حضرية تنفتح على البحر، وضفاف الأنهار، وفي مناطق غنية بالماء، والموارد ومساحة الأرض الشاسعة.
لذا، نحن إزاء رأسماليات طفيلية فريدة وغير مسبوقة، نشأت خارج التاريخ، وأزعمُ أن فيها الكثير مما يفسر ما أصاب البنى والقيم السياسية والاجتماعية والثقافية للحواضر من تشوّهات على مدار عقود مضت. وبما أن عدتنا الأيديولوجية الراديكالية فقيرة، فلنقل إن الأوّل من أيار يقرع جرساً للإنذار، ومن حسن الحظ أنه يفعل هذا في كل عام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى