اخبار

الموجة الثالثة من التطبيع ..خالد شــحام

بعد يوم متعب  يمكن للمرء أن يوهم نفسه بالجلوس قبالة التلفاز مع كأس من الشاي للاستماع  إلى نشرة مطولة من الأخبار بين بعض المحطات السرابية  لعله يظفر ببعض راحة البال أو ايجاد فتات من البهجة ،  يكفي موجز الأخبار لكي تشعر بأن هذا العالم يقترب من نهايته ، جرعات متدفقة من القلق والقهر والتوتر كافية كي تسد نفسك عن أي طعام أو شراب  وتمتنع عن احتساء الشاي بالنعناع ،  يمكن للمرء أن يكتفي بالاستماع إلى كلمات كبار قادة العالم في مجلس الأمم المتحدة في دورته الثامنة والسبعون  والخطايات التي ألقيت كي يدرك مدى سوء هذا العالم الذي نعيشه وحجم الزيف الذي يغشاه لأن الحقيقة والواقع هو تماما عكس كل ما تم طرحه وقوله ، لقد وصلنا إلى القوالب القصوى في الكذب والتزييف وأصبح معبد نيويورك محطا للصلوات الجنائزية والكلمات المستهلكة ، معنى ذلك أن هذا العالم بأكمله يتعرض للكذب والخداع المميت المستمر  وكأن كل زعيم أو مسؤول قدم ملخصا لمهام التخريب الموكول بها .
السؤال الكبير الذي يقفز من ظلمات الصورة  : ما الذي يدفع العالم بأكمله ليكون بهذا السوء ؟ ما الذي يدفع بلدان العالم  الى تمزيق بعضها بينما نسمع الكلمات عن السلام والوئام والأمان  ؟ ما الذي يدفع بلدين جارين كي يقتتلان ويحرقان بعضهما البعض ؟ ما الذي يدفع العرب لمصافحة عدوهم الذي يقتل أبناءهم  ويحتل جزءا من بلادهم  ويسيء لدينهم ويعيث فسادا في شؤونهم وحياتهم ومصيرهم ؟ ما الذي يدفع بهذا القدر من السوء كي تخرج البشرية أحط ما فيها من  بشاعة مغلفة بالتجمل ؟ ما الذي يدفع هذا العالم  بأكمله كي يسقط عن جرف التاريخ نحو وادي الخطيئة والرذيلة والبشاعة بعد قرون من استمرار النهضات والتطور العلمي والاجتماعي والمدني ؟ كيف وصلنا إلى هنا بهذه الحمولة المخيفة من الرعب والخوف من بلادنا ومن المستقبل ؟ لماذا تحولت كل انجازات البشرية من رفاه وصناعات وجماليات راقية وجوائز نوبل الى مخاوف وأشياء عديمة النكهة والطعم والمعنى ؟
 الجواب على ذلك لأن الراعي الكبير الذي يقف على ناصية هذا العالم هو كيان يفتقر لأية انسانية  وغير مؤتمن ولا امين ويحمل من سوء الفكر والضمير والنوايا ما يجعلنا نخاف ونخشى من أي شيء يدعيه أو يظهره لأن الظاهر عكس الباطن تماما ، لا شيء يشجع الانحطاط والضياع إلا وجود راع كبير له ، لا شيء يبرز هذا الهدر للقيمة الانسانية والاجتماعية والنعيم التقني على سعة العالم سوى قوة دافعة بشدة لكي تتفكك الآنظمة وتخرب وتنصاع بالقدر المهين للأوامر الملقاة على عاتقها .

اليوم تتجدد الغصة مع سماع الأخبار عن موجة جديدة من التطبيع مع الكيان الصهيوني في موسمها الثالث ، وتأتي حقيقة هذه الغصة من تساؤلات أخرى لأن الحقيقة قائمة على التساؤلات : ما مصير شعوب العرب في ظل هذا النهج المتفاقم ؟ ما مصير القضية الفلسطينية في ظل تآكل الخارطة العربية ؟ ما الذي يريده العرب والحكم العربي في ظل تمدد الكيان العدو بالقوة الناعمة كما يبدو ؟
حتى تتم الإجابة عن التساؤلات السوداء السابقة يجب أن نطرح الأسئلة البيضاء الموازية لها : ما الذي قدمه امتناع العرب عن التطبيع كي يخاف الشعب العربي من التطبيع ؟ ما الذي لم يفعله التطبيع السري وسوف يفعله التطبيع العلني ؟ لماذا يشعر الجميع بالرثاء والشفقة حيال االقضية الفلسطينية  مع صعود الموجة الثالثة من التطبيع ؟ من هو الذي قال بأن الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية هي الخاسرة أو المهددة الوحيدة مما سيأتي ؟ من الذي يمكنه أن يؤكد بأن مزيدا من السوء سيأتي حيث يمكن أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم  ؟
إبان فترة الدعاية  الانتخابية في عام 2017 لرئاسة الولايات المتحدة كانت التحاليل الطبية الإخبارية ترسم صورة  مخيفة لاحتمالات فوز دونالد ترامب فالرجل يركب موجة العنصرية والتزمت والتشدد وكل ما يمكن أن يكون مخيفا في رأس إنسان في مركز قيادة العالم والذي يفترض أن يتمتع بعكس كل ذلك ، أعترف لكم بأنني مثلي مثلكم شعرت بالكثير من الغصة والانقباض والاستياء والترقب عندما اعلنت المراكز الانتخابية فوز المذكور أعلاه ، أسباب الخوف تعمقت أكثر عندما تتابعت الأنباء والأحداث عن نظرة هذا المخلوق البرتقالي  للعرق الأسود والأصفر واحتقاره لجنس المرأة وتأييده المطلق لنقاء أمريكيا من المهاجرين والمارقين  وتعامله مع محيطه بمنطق الاستعلاء وعودة نفوذ الرجل الأبيض صاحب الاقطاعيات والعبيد والسوط في يده .
خلال شهور قلقة تمكن دونالد ترامب من كشف الجوهر الكامن في داخله والذي يعكس بالضرورة الوجه الأمريكي الحقيقي الذي لم نكن لنراه لو فازت الشيطانة المغرية صاحبة البسمة السامة هيلاري  ، لا أخفيكم أنني تباعا أصبحت معجبا بهـذه الشخصية المثالية التي تجســد الحلم الأمريكي الحقيقي وأصبحت  أتمنى بقاء شخصية دونالد ترامب في سدة الرئاسة الأمريكية وأدعو الله ألا يتم استبداله بأي زعيم آخر ولكم أن تحزروا لماذا ؟  ؟ حقيقة أننا أصبحنا نتمنى أن تجري الأمور على حقيقتها بلا مواربة ولا حملات تضليل ولا تمويه لأن ذلك أدعى للرؤية الصحيحة وتمييز الاصطفافات الحقيقية  التي توارت في رؤيتها طيلة سنوات عديدة ، تماما كما أظهر ترامب حقيقة الجوف الأمريكي واخلاقياته ورغباته ورؤيته للعالم من حوله
ما يحدث الان في المنطقة العربية  هو جزء من إدارة  حزام الفوضى الذي يعصف بهذا العالم والذي تتولى ادارته الولايات المتحدة ، ما يحدث هو أنه لم يعد لدينا قضية فلسطينية فقط في كوننا العربي الصغير لكن لدينا اليوم  قضية عراقية وسورية ويمنية وليبية وسودانية وكلها محاكة على يد نفس النساج ، لدينا قضايا عالمية  مبيتة على شكل قنابل موقوتة  اسمها اوكرانيا  وتايوان وأذربيجان  وبقع متفجرة منتقاة بعناية يتم اشعالها فورا بكبسة زر ، يوجد الان في عالمنا كرة معقدة من خيوط مشاكل مختلفة قدمها كبير الروم في كلمته في الامم المتحدة على انه سفير السلام والآمن العالمي  وفتات الحدث العربي هو جزء من نسيج هدا الحزام ، ما يحدث في المنطقة العربية أكبر من البحث عن السلام والاستقرار وفرص التنمية ، إنها  إعادة تموضع واصطفاف وتبديل استراتيجيات من أساليب متشنجة إلى أساليب استدارية  ملساء  ليس لسحق أو إذابة القضية الفلسطينية  لأن حسابات هذه القضية أنهِيت وانتهت بالفعل في الملفات الأمريكية الداخلية وكل الاعلانات المتعلقة بحلول أو وهم الدولة او السلطة أو صفقة قرن هي مجرد كرنفال إلهاءات داخلية أبدية  تتناسب مع العقول القصيرة المخدرة ، ما يجري هو ترتيب اوراق المنطقة لتتناسب وتتأهل  مع المعارك الكبرى المخطط لها وتوضيب قدرات المنطقة العربية المصابة بالوهن والتبعية لتكون ممرات وطرق وأنابيب ومستودعات أسلحة ومحطات جند ومراكز تدريب وتنظيم وحلول عاجلة للمشاكل التي ستولدها الخطط الأمريكية القادمة  بقيادة النائب الصهيوني  والتي من الضروري تأمينها لاستمرار سريان الهيمنة والقرار الأمريكي ، الكيان الصهيوني ليس بحاجة إلى رفد اقتصاده أو تغذية وجوده بحلفاء جدد من العرب لأن هذه القراءة منقوصة وظاهرية  وليس بحاجة لإقامة أية تحالفات ضامنة لآمنه أو بقائه لأن أحدا من العرب لا يشكل تهديدا وجوديا له ، الشق الثاني من تفسير الصورة يعود مرة اخرى كما كل مرة إلى جمهورية ايران حيث يتوجب تشكيل الكتلة المتحالفة الضخمة لتوجيه الضربة القاضية للمتمرد الايراني الذي شق عصا الطاعة الأمريكية حتى مع الايهام بوجود تفاهمات واتفاقيات وهدنات .
إن هذا السياق يعني مرة اخرى بأن العالم يتحضر لوجبة جديدة من الخطط والضربات الأمريكية المتعددة الآفاق ، الأزمة الأوكرانية في طريقها للتصعيد بوجبة جديدة من السعير والمال والدعم  العربي المفتوح سيدخل المعركة ضد روسيا ، اوروبا التي تم تركيعها وتوضيبها لتكون الخادم الأمين للمعركة الأمريكية مع روسيا ستعاني الأمَرَّين في الشهور القادمة ، الشعب الفلسطيني  سيتعرض لموجات جديدة من الضربات والاستيلاء على أرضه وبلاده وموجات جديدة من الخطط والهجرات والتصاميم المبتكرة لأكذوبة الدولة الفلسطينية في طريقها للظهور ، لن نتفاجىء بأن ايران ستكون بين لحظة وضحاها عدوا من جديد لأمة العرب بنفس توقيت بعث الاضطرابات في الداخل السوري والعراقي واللبناني واليمني .
الشيء الوحيد المضمون في كل متغيرات المستقبل القادمة خلافا لكل ما يخطط له هو أن إرادة الشعوب الحية العربية وغير العربية والتي وقفت في وجه المشاريع الأمريكية الاستعمارية كانت ولا زالت حائط الصد والوقاية الأساسي وهي التي ستفوز مرة ثانية وثالثة ورابعة .
كاتب عربي فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى