اخبار

حمائل وفصائل : هل تحتجز الحامولة الدولة ؟..

د.احمد رفيق عوض رئيس مركز الدراسات المستقبلية في جامعة القدس

نشرت في العام 1985 قصة قصيرة بعنوان “الحامولة” بمجلة الفجر الأدبي التي كان يرأس تحريرها المرحوم علي الخليلي، تتحدث القصة عن حامولتين نشب بينهما خلاف شديد سببه شجار بين طفلين، تطور الخلاف بين الحامولتين واشتد الى درجة أن افراداً من الحامولتين حصل على أسلحة من المحتل، فسقط قتلى وانقسمت القرية الى نصفين، لكل منهما طريق، طريق احد الحامولتين يمر عبر المستوطنة وصولاً الى الشارع العام. هذه القصة نشرت عام 1985 موقعة باسمي المستعار حينذاك “فكري خليفة”، وقد كتبتها على أثر خلاف عائلي كنت شاهداً عليه وانتهى نهاية مأساوية حقاً.

والحامولة، كما هي اشكالها وادوارها وتأثيراتها في مجمل التاريخ الفلسطيني الحديث على الأقل، كان لها تأثير كبير في تماسك المجتمع والحفاظ على الهوية الثقافية، كما اظهرت الحامولة قدرة ملحوظة في البقاء والصمود، ولعبت ادواراً هامة في عمليات الضبط الاجتماعي والقيمي، وفي غياب المؤسسات الجمعية الكبيرة فقد قامت الحامولة الفلسطينية بملء الفراغ، فتحولت في لحظة ما ، ربما ما تزال مستمرة الى ان تكون السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن معاً، تتميز الحامولة بقدرتها على الترميم والاشفاء والتواصل وصد الصدمات وتحملها والتكيف معها والحفاظ على هوية عميقة ذات مستويات متعددة.

ولكن هذا كله لا يشكل الصورة الكاملة ، اذ ان هذه الحامولة التي قامت بادوارها وما تزال، الا انها تملك جانبا فيه كثير من السلبيات وخصوصاً في حالتنا الفلسطينية، فما أن خرج العثمانيون من بلادنا ووقعت تحت براثن محتل مجرم هو المحتل الانكليزي، فان الحامولة الفلسطينية هي من تولت الاشتباك معه ، وحتى عندما شكلت هذه الحمائل احزابا، فقد ظلت احزاباً حمائلية ، وقد ذكر باحث فلسطيني ذلك بقوله ان ابناء العائلات واجهوا ابناء الامبراطوريات، الاساس الحمائلي للنضال ضد المحتل الانكليزي سهل لهؤلاء ان يلعبوا تماماً على التناقضات الحمائلية المتمثلة بالمجد والنفوذ في وطن محتل، وعندما ثار الشعب الفلسطيني في العام 1936 في ثورة من اروع واطهر الثورات، فان المحتل الانكليزي المجرم استطاع ان يخمد تلك الثورة باساليب متعددة من اهمها الانشقاقات والتناقضات الحمائلية . وهي خلافات لم تتوقف يوماً للاسف ، فقد شهدت بلادنا كثيرا من هذه المعارك التي كان يتم فيها ترحيل كلي او جزئي للحامولة وحرق لمنازلها وحقولها ومحاصيلها ، فضلاً عن قتل الرجال او اختطاف النساء، وكان على تلك الحمائل ان تتشرد في البلاد، تتخفى باسماء جديدة او تلطي تحت حمائل اكبر وأقوى، وهكذا فان المعارك بين الحمائل التي استغلت من قبل قوى مختلفة – بما فيها المحتل وغير المحتل- ادت الى تراجع النمو والتقدم والعمران، يمكن القول ان انتصار المشروع الصهيوني –ضمن اسباب اخرى- يعود ايضاً الى ان المجتمع الفلسطيني لم يستطع ان يبلور تمثيلاً كلياً جامعاً للاهداف والمطالب الامر الذي عززته اطراف كثيرة لتفكيك شعبنا واعتباره مجرد حمائل او طوائف او جماعات،  واستغلت الحركة الصهيونية ثم اسرائيل فيما بعد الصراعات الحمائلية لتعزز سيطرتها السياسية الامنية على مفاصل المجتمع الفلسطيني، كان ذلك في مناطق 1948 ومناطق 1967 فيما بعد، فمنذ اللحظة الاولى للاحتلال عام 1967 بحثت اسرائيل عن  قيادات حمائلية لتعزيز حضورها ولتكون بديلاً او  خصماً للفصائل الفلسطينية ، وادعى هنا ان الحركة الوطنيةالفلسطينية استطاعت هزيمة المحتل في هذا المسعى فترة من الزمن، كانت فيها الحركة الوطنية قوية وقادرة على تقديم الاجابات السياسية والاجتماعية، وهو ما رأيناه، ايضاً في مناطق 1948 عندما تمت ازاحة القيادات التقليدية واستبدالها بقيادة سياسية حزبية وذلك في اوائل الثمانيات تقريباً، ومع تآكل الخطاب القومي والوطني وهبوط السقوف وانهيار الافكار، وضعف الفصيل وتغول المحتل بادواته واساليبه ، تعود الحامولة الى المشهد، فالحمائل تغلبت او ابتلعت او ذوبت الفصائل لانها – كما تعتقد –الاقدر على تقديم الحلول والاسرع في فرضتها والاضمن في ادامتها ايضاً.

ما نراه اليوم في مناطق 1948 ومناطق  1967 أيضاً، من تعمق الخلاف الحمائلي وانتشاره انما هو انعكاس للانقسام الرأسي الذي اصاب النظام السياسي الفلسطيني وللازمة العميقة التي يمر بها الفصيل الفلسطيني ولحالة الارهاق الضعف العام الذي تمر به الامة، اذ تعود الحامولة وكما كانت في السابق الملاذ والحامي في غياب مؤسسات النظام السياسي الجامعة، فهي تحمي وتأخذ الحقوق وتفرضها، المعضلة هنا، ان التشكيل الحمائلي هو نكوص عن شكل الدولة ومضمونها ، وهو ما يغرى المحتل منذ زمن بعيد للقول ان الشعب الفلسطيني لم ينضج بعد لتشكيل دولة او تأسيسها ، وان استمرار الخلاف الحمائلي وتجذره وحضوره كبديل عن المؤسسات الرسمية التمثيلية كفيل باحتجاز الدولة ومفهومها ، فالحامولة كتنظيم اجتماعي تقدم بديلاً عن التنظيم السياسي، وهكذا وبدلاً من الانتماءات الكبيرة نعود الى انتماءات صغيرة متعادية ومتحاربة ومستعدة للانتحار من اجل الحصول على حماية ، اي حماية من اي طرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى