اخبار

أمين معلوف، وسلالم الشرق…!! حسن خضر

ابتهج “العرب” لانتخاب اللبناني – الفرنسي أمين معلوف أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية. كان وصول واحد “منهم” إلى مكانة رفيعة في الغرب على رأس مصادر البهجة، بطبيعة الحال. وكالعادة، لم تبدد الطمأنينة الفردوسية لكيلهم بمكيالين، وما يحصدونه من مشاعر البهجة، حقائق من نوع أن معلوف ليس فرنسياً أصلياً (بمعيار القوانين السائدة للمواطنة والجنسية في العالم العربي) وأنه حصل على المنصب الرفيع بالانتخاب لا بالتعيين، وما يعزز من الدلالة الدرامية للأمرين ما للأكاديمية الفرنسية من مكانة أيقونية سامية، فعلاً، لدى الفرنسيين.
ومع ذلك، وعلى الرغم من احتلال البهجة للمتن، إلا أن ردة فعل متحفّظة، وذات دوافع قومية، لم تتردد في المنافسة على جانب من المتن، حتى وإن كان أقل مساحة. واستُعيدت، في هذا الصدد، سجالات وقعت قبل سبع سنوات بعد مقابلة تلفزيونية مع قناة إسرائيلية اتهمه البعض بعدها بالخيانة، والانخراط في مؤامرة “التطبيع”. وفي السياق نفسه، عادت إلى الواجهة ملاحظات على رواية لمعلوف نُشرت ترجمتها العربية بعنوان “سلالم الشرق”. وخلاصة الملاحظات أن الرواية تمثّل “الرؤية الأشد فتكاً بالقضية الفلسطينية”.
لذا، أود التعقيب على الرواية المذكورة كمساهمة في السجال العام. وبما يشبه قوساً نفتحها في سياق كلام بدأ قبل ثلاثة أسابيع عن “المسألة الإسرائيلية”، لنعود بعدها إلى المسألة المعنية.
“سلالم الشرق” في طبعتها الثانية الصادرة عن دار ورد السورية 1998، هي ما يحتل المتن في هذا القوس. ومن اللافت أن الناشر استدرك الدلالات الكثيرة للعنوان الأصلي بالفرنسية، وترجماته المحتملة. ومن جانبي أعتقد أن “موانئ الشرق” هو العنوان الأمثل. وما يجدر ذكره أن الترجمة الإنكليزية صدرت بعنوان Ports of Call
أما لماذا موانئ الشرق؟ فلأن مدن الشرق الساحلية كانت في الزمن الإمبراطوري العثماني، وقبله طبعاً، أماكن للتعددية الإثنية واللغوية والثقافية: صورة صاخبة وحديثة لبرج بابل الأسطوري. دعك من أوصاف الرحالة، حتى في “خارج المكان” لإدوارد سعيد نعثر على ملامح متأخرة لذلك الشرق الكوزموبوليتي القديم.
لا نعرف، بالضبط، مدى انسجام الصورة الكوزموبوليتية للمدن الساحلية مع حالة البلاد والعباد في المناطق الداخلية الصحراوية والجبلية hinterlands ولكن ما يمكن الحديث عنه بقدر من الطمأنينة هو تدهور تلك المدن مع صعود الظاهرة القومية، وفشل الدول التي تشكّلت من حطام الإمبراطورية في استلهام التعددية القديمة، ودمجها في هويتها كقيمة حضارية وثقافية سامية.
المهم، هذه التعددية هي البطانة الداخلية لرواية معلوف، التي نسمع في خلفية أحداثها دوي الأعاصير العاتية التي اجتاحت الشرق: من انهيار الإمبراطورية العثمانية، وحتى اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. وبهذا المعنى، يستحيل فصل مصائر الفاعلين الروائيين عن التداعيات المباشرة، وغير المباشرة، الآنية، وبعيدة المدى، للأعاصير. ما يعني استحالة النفاذ إلى حيواتهم وعوالمهم في معزل عنها، أيضاً.
إذاً، على هذه الأرضية، وفي إطارها التاريخي، يُشكّل معلوف الفاعلين الروائيين. وإذا كان قد لجأ على صعيد الشكل إلى تقنية سردية متداولة (عثور الراوي على مذكرات، أو سماعه اعترافات شخص في مناسبة غير متوقعة. الخ) فقد استعان بحيلة روائية متداولة، أيضاً، تحويل حدث بعينه (ومنْ أقوى من الحب؟) ليكون فاعلاً رئيساً لا يتلاعب بالمصائر وحسب، بل ويضع المادة الخام (اللغة، الأحداث، والشخصيات) على سكة السرد الروائي، أيضاً، ويمكنها من الكلام.
قلنا إنه استعان بحيلة روائية متداولة هي الحب (وبقدر ما يتعلّق الأمر بالصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي فهي أكثر من الهم على القلب، خاصة في الآداب الإسرائيلية واليهودية). ومبرر الاستعانة بهذه الحيلة أن الحب مزعزع، وعابر للحدود، والقوميات، والثقافات، واللغات (في “قوس النصر” عن الاحتلال النازي لباريس، وهي من أشهر روايات الحرب العالمية الثانية، ينشئ الألماني إيريك ماريا ريمارك علاقة حب بين ضابط نازي وامرأة فرنسية بلا لغة تقريباً، هو لا يعرف الفرنسية، وهي لا تفهم الألمانية).
المهم أن العلاقة تبدو حلاً درامياً للتدليل على إمكانية جسر الهوة بين عدوين بالحب. أو تحويل علاقة الحب إلى خارطة طريق (بلغة عملية السلام إن شئت) لحل الصراع بينهما. والشائع في خارطة طريق كهذه الانطلاق من فرضية مسبقة مفادها أن سوء الفهم هو مصدر الصراع بين العدوين. والمشكلة مع حلول روائية، واستيهامات وفنتازيا كهذه أنها بقدر ما تبدو نبيلة، وذات فتنة طاغية، تبدو اختزالية وساذجة تماماً. فلا يمكن ترجمة الصراعات القومية والتحوّلات الكبرى، حتى وإن بدت بلا معنى في زمن لاحق، بسوء الفهم، وعلاجها بترياق الحب.
لم ينجم الصراع في فلسطين وعليها عن سوء الفهم، بل نجم عن الفهم العميق لكلا الطرفين، وربما أكثر مما يجب. والمشكلة أن رهان معلوف على مرافعة الحب (التي لا تصبح مأساوية دون التوابل الضرورية والمُفزعة لسوء الفهم) لم يمكنه من استحضار نكبة الفلسطينيين وهولوكوست اليهود الأوروبيين بطريقة مُقنعة، وظل هؤلاء صورة شبحية مقابل صورة تتقدّم المشهد لأكثر من جيل من الأتراك العثمانيين، انهار عالمهم مع انهيار السلطنة، وأكثر من جيل من الأرمن، عصفت بهم مذبحة مروّعة سبقت الهولوكوست، ولم يُعترف بها كإحدى المآسي الكبرى في القرن العشرين.
هل نتهم معلوف بالانخراط في مؤامرة للنيل من المسألة الفلسطينية، أو محاباة الغربيين؟ الجواب: لا بالتأكيد. قدّم لنا نصاً لا يخلو من الإمتاع والمؤانسة، ولكن رهاناته الروائية، وتقنياته السردية، اقتربت من عالم الأتراك والأرمن العثمانيين (وهذا ما يُشكر عليه) أكثر مما فعلت مع الفلسطينيين والإسرائيليين، الذين لم نر سوى أشباحهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى