اخبار

عن أنواع الكتّاب والمبدعين..عبد الغني سلامة

ثمة سؤال قديم، ما زال يثير انقساماً حاداً حوله، والسؤال يدور حول العمل الإبداعي بشتى حقوله، وخاصة الكتابة: أيهما أهم وأصعب: المضمون والمحتوى، أم الأسلوب والطريقة؟ بمعنى آخر أيهما أهم: الفكرة أم الموهبة؟
البعض يقول إن الموهبة هي الأهم، فالأفكار موجودة في كل مكان وزمان، يراها ويختبرها الجميع لكن فئة معينة محدودة تستطيع صياغتها والتعبير عنها على نحو فني بديع، أي من يمتلكون الموهبة والملَكة.. بينما يقول البعض الآخر أن الموهبة ليست الأهم، فهناك كتّاب وفنانون كُثر لديهم الموهبة، ولكن تنقصهم الأفكار.
من وجهة نظري، حتى نحصل على عمل فني إبداعي جيد (كتاب، مقال، فيلم، قصيدة، مسرحية، رواية..) يتوجب تضافر ثلاثة عناصر معا، هي على الترتيب من حيث الأهمية، الأول: أفكار «المبدع» وقناعاته وموقفه تجاه القضايا المختلفة. الثاني الحصيلة المعرفية والمستوى الثقافي. والثالث: الموهبة.
الموهبة حتى لو كانت ضعيفة، يمكن صقلها وتطويرها بالتدريب والمثابرة وتراكم الخبرات.
الحصيلة المعرفية مهمة جدا، لأنها تثري العمل الفني، وتضفي عليه قيمة، وهي ضرورية لأي كاتب، حتى يستطيع تحديد موقفه الشخصي تجاه القضايا العامة، والحصيلة الثقافية والمعرفية لا تأتي من خلال الدراسة والتحصيل الأكاديمي وحسب، بل تأتي أيضا من خلال الكتب، والمقالات، والسفر، ومشاهدة الأفلام، ومخالطة الناس، والتأمل والتفكير، والاطلاع على كل جديد، ومحاولة فهم كل ما هو مختلف وغريب.
الموقف الشخصي تجاه القضايا المختلفة هو الأهم، فما فائدة الحصيلة الثقافية حتى لو كانت ممتازة ما لم تُبنَ عليها مواقف إنسانية تقدمية؟ وقد ابتلينا بما لا حصر له بمن يسمونهم خبراء ومختصين ومستشارين وحمَلة دكتوراه، ولا نسمع منهم سوى الهراء، والمزايدات، والخطاب الشعبوي.. فضلاً عن المواقف المتخلفة، والتي تنم عن جمود فكري، وتعصب، وذكورية، وفكر خرافي غيبي.  
في الواقع فئة «المثقفين» وحملة الشهادات العليا، هي الأخطر، فكثير من هؤلاء يسوّقون لأيدلوجيات حزبية، أو يبررون للنظام، أو يروجون للخرافة، ويساهمون في تضليل الجماهير، وتوجيه الرأي العام باتجاهات متباينة بعيدة كليا عن الحقيقة.
وعندما نقول الموقف الشخصي تجاه القضايا المختلفة، نقصد قضايا المجتمع، وحقوق المرأة، والطفولة، والأقليات، وحقوق الإنسان، والحريات العامة، والتعددية، وقضايا الدين، والفكر الديني، وقيم المجتمع، والموروث الثقافي، والعشائرية، والفساد، وقضايا الوطن والمقاومة والتطبيع.
بالطبع، ليس مطلوبا من الجميع تبني موقف واحد وموحد تجاه تلك القضايا، هذا غير ممكن، بل المطلوب تعدد الآراء وتباين المواقف ولكن على أن يكون معيارها الإنسانية والتقدمية، بمقياس العقل والمنطق والعلم، وبسقف حرية غير محدد.  
ومع ذلك، يمكن أن تجتمع لدى المبدع كل تلك العناصر، لكنه قد يجبن عن مواجهة السلطة، أو تحدي المجتمع، أو الخوض في القضايا الإشكالية، أو مخالفة الموروث الثقافي السائد.. وقد يكون معيار وهدف المبدع تلبية طموحه الشخصي فقط (المال، والشهرة، والمكانة الاجتماعية) بأنانية واضحة، وخطاب شعبوي.
في الساحة الثقافية والأدبية لدينا كل تلك الأنواع من الكتاب والمبدعين؛ من لديه أسلوب ساحر وقلم رشيق لكنه يكتفي بما هو سطحي وخفيف، ولا يصلح سوى للتسلية.. وبالمناسبة التسلية بحد ذاتها ليس خطأ، بل مطلوبة.. بعض من يكتفون بالتسلية إما أنهم غير مثقفين بالقدر الكافي، أو أنهم غير معنيين باتخاذ مواقف تجاه الأحداث، ومع ذلك لديهم جمهور واسع ينتظر بشغف ما يكتبون.  
لدينا كتاب مبدعون، لكنهم لا يرغبون باتخاذ مواقف قد تجر عليهم المشاكل، أو تخسّرهم جزءا من جمهورهم، يحبون البقاء في المنتصف، يتوارون عند الشدائد، ويختفون تماما عن نقاط الاشتباك الساخنة.. وأيضاً لهؤلاء جمهورهم الكبير والمحب.
لدينا فئة المتخصصين، وقد يكون هذا هو الوضع الطبيعي، فليس مطلوباً من المبدع أو المثقف أو الكاتب أن يكون متعدد المواهب والقدرات، وأن يكون خبيراً في كل شيء.. هذا غير معقول.. هناك من لديه موهبة الكتابة، ولكنه يفتقر لموهبة السرد، فيتلعثم أمام الجموع، ويتهرب من المقابلات المصورة.. وهذا طبيعي، فقد تجد خطيبا مفوهاً لكنه لا يستطيع كتابة مقال من صفحة واحدة.. وقد تجد شاعراً مخضرماً لا يعرف شيئاً عن الفن السريالي.. ونحاتاً بارعاً لم يسمع في حياته عن نظرية الأوتار الفائقة.. وروائيا شهيرا لا يجيد رسم شجرة..
ليس شرطا أن تكون فناناً شاملا، ولا كاتباً موسوعيا.. قد تستطيع الجمع بين نوعين أو ثلاثة من أنواع الإبداع، لكن على المبدع والأديب والمثقف أن يكون واسع الاطلاع، وألا يحصر نفسه في زاوية واحدة، فمن غير المقبول ألا يعرف الروائي شيئا عن عصر النهضة، وألا يعرف المسرحي شيئا عن تضاريس الأرض، وألا يعرف الشاعر شيئاً عن عالم الحيوان، وألا يميز الفيلسوف بين الأوكسجين والهيدروجين، وأن يعجز الرسام عن تغيير إطار سيارته حين «يبنشر»، ولا يتابع المفكر عالم «التيك توك»، ولا يطلع الكاتب على اهتمامات الجيل الجديد، وآخر صيحات المغنين الجدد.
المبدع الحقيقي والمتميز من يستطيع خلق فكرة، أو ابتداعها، أو التقاطها، أو نقلها بطريقة فنية مبتكرة، وبأسلوبه الخاص والمميز.. فمثلا قد نمر في طريق ما، أو نرى مشهدا طبيعيا ولا ننتبه له، أو ينتبه كلٌ منا بطريقته الخاصة، فنلتقط مئات الصور العادية، لكن المصور الفنان وحده من يعرف الزاوية الصحيحة لالتقاط الصورة الأجمل، وحده من يرى موطن الجمال من منظاره الخاص.
في المقاهي وجلسات السمر والاجتماعات العامة نسمع قصصاً ومواقف عديدة، فيأتي قاص أو روائي أو شاعر أو مخرج ويحول إحداها إلى عمل فني مبهر.. وبالمثل سيقرأ المئات منا قصيدة معينة، لكن ملحناً موهوباً وحده من سيحولها إلى أغنية خالدة.. وهكذا..
في النهاية، الجمهور واسع جدا، ومتنوع إلى أبعد حد، واهتماماته مختلفة، ومعاييره متباينة، ومن المستحيل إرضاء الجمهور، ومن يسعى وراء ذلك يقع في الخطأ القاتل.. المهم أن ترضي ضميرك أولاً، وأن تكون صادقاً مع نفسك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى