اخبار

الانفكاك العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية..مهند عبد الحميد

تساءل الروائي غسان كنفاني حول قرار مجلس الأمن رقم 242 : هل هو قرار لحل القضية الفلسطينية ام قرار لإزالة آثار عدوان 67؟ التساؤل يحيلنا الى ذلك القرار الذي ينص على : أ – سحب القوات المسلحة من أراضٍ (الأراضي) التي احتلتها في النزاع. ب – إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد وأعمال القوة. يؤكد أيضا الحاجة الى تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
القرار في حقيقة الأمر عبّر عن ميزان قوى كان نصيب الدول العربية فيه هزيمة ساحقة، انتزعت إسرائيل من خلالها اعترافاً عربياً «بسيادة ووحدة أراضيها وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد وأعمال القوة». باختصار اعترفت الدول العربية بنتائج حرب 48 . كان ذلك بمثابة فك الارتباط السياسي العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية، وتحويلها من «قضية العرب المركزية» أو «قضية العرب الكبرى» إلى «تسوية عادلة لقضية اللاجئين». وعندما يكون ميزان القوى هو المقرر، فإن الطرف الذي يتحكم بتطبيق قرار مجلس الأمن، هو الطرف الأقوى، حيث جرى اعتماد الانسحاب من أراض بمعنى بعض الأراضي، وليس من الأراضي، أي جميع الأراضي. قرار مجلس الأمن 242 واعتراف النظام العربي الرسمي به وضع أساساً صلباً لكل التحولات السياسية والاقتصادية الكارثية اللاحقة.  
كانت المفارقة بين هذا التحول السياسي النوعي وبين « حالة من إنكار الهزيمة، وتخفيفها الى «نكسة»عابرة، وتبريرها بعوامل خارجية فقط وفي أحسن الأحوال الاعتراف بأهمية التكنولوجيا والتدريب للجيوش العربية كما يقول صادق جلال العظم في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». فالنكسة أخفقت في تحقيق أهدافها لأن الأنظمة التقدمية لم تسقط»، كما يقول الخطاب الرسمي.
مقابل ذلك يقول العظم إن إنكار الهزيمة جسّد غياب فكر نقدي، يطرح سؤال حرية المواطن ودوره، وعلاقات التخلف وبنيتها الاجتماعية، وثقافة العجز والتبرير. وفي غياب النقد يعاد إنتاج الهزائم وعلاقات التخلف. المفكر إبراهيم فتحي يذهب الى الجذر بالقول في كراس (طبيعة السلطة): هذه الطبقة لا تعرف الاعتماد على الجماهير في صداماتها مع الاستعمار ولا تقوى على خوض حرب جدية بوجود عناصر المهادنة لديها. وكانت منذ البداية توجه الضربات للتنظيمات السياسية والنقابية والى كل الحريات الديمقراطية المنتزعة في عهود سابقة. وبعد الهزيمة ليست على استعداد في سياق حل تناقضاتها مع الاستعمار الى إعطاء الطبقات الشعبية أي دور في المعركة لأن معنى ذلك التنازل عن احتكارها للسلطة. وبدلاً من ذلك تبحث في شبكة العلاقات المحيطة بها عن تسويات وأنصاف حلول مع القوى المعادية وتتهادن مع القوى الرجعية في المنطقة، وتعد العدة للاعتراف بإسرائيل وبحدودها الآمنة مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة.
في غياب فكر ناقد وحريات، وإدارة الظهر لإعادة بناء طاقات وقدرات الشعوب المعنية بالتحرر من الاحتلال ومن علاقات التبعية، تنفرد الأنظمة في البحث عن حلول لأزماتها بالتفاهم وبالاعتماد على شبكة التحولات والعلاقات الجديدة. وبممارسة الضغوط، حيث كانت آخر محاولة لممارسة الضغط هي حرب أكتوبر/ تشرين الأول 73. وكما أنكرت هزيمة 67 قدمت انتصاراً  في أكتوبر بمضمون هزيمة 67 وذلك حين دعا قرار مجلس الأمن 338 جميع الأطراف المعنية إلى البدء فوراً بعد وقف إطلاق النار، بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم (242) (1967) بجميع أجزائه. هنا تتناقض حالة الانتصار مع التزام المنتصر بقرار هزيمة سابقة بدون أي إضافات او رتوش على الأقل في المسألة الفلسطينية. كانت حرب أكتوبر امتداداً لسياسة الانفتاح اللامحدود على الحلف الأميركي الإسرائيلي ودول البترودولار، وامتداداً للاستعداد المحموم لإبرام صفقة سياسية منفردة، لكن التعنت الإسرائيلي حال دون ذلك، ما أدى الى خوض حرب محدودة هدفها فتح الباب المغلق أمام الحل السياسي وتوفير غطاء للتنازلات التي ما كان بمقدور نظام السادات تقديمها بدون حرب. وما ان صمتت المدافع حتى دشن السادات الحل المنفرد مقايضاً القضية الفلسطينية برمتها ومصالح النظام السوري حليفه في الحرب ودور مصر الإقليمي والدور الاعتباري لجامعة الدول العربية التي تترأسها مصر، مقابل عودة سيناء بقيود ثقيلة تمس سيادة مصر، ومقابل حصول النظام على عضوية التبعية الجديدة.
كانت المفارقة بناء قيادة م.ت.ف لبرنامجها ومشروعها الوطني استناداً للتغيير الذي أحدثته حرب أكتوبر/ تشرين الأول. وكان للاعتراف العربي الرسمي بتمثيل م.ت.ف للشعب الفلسطيني «ممثلاً شرعياً وحيداً». مع أن القراءة الموضوعية لحرب أكتوبر وقرار مجلس الأمن 338، ولمكانة فلسطين المتدنية فعلاً لدى النظام العربي الرسمي، تحتمل القول: كانت وظيفة الاعتراف العربي الرسمي حينذاك هي الانفكاك عن القضية الفلسطينية، واستبدالها من مكانة قضية مركزية عربية، الى قضية فلسطينية خاصة بالممثل الشرعي الوحيد. ما ورد في مقالة الصحافي السعودي عبد الرحمن الراشد في صحيفة الشرق الأوسط يعزز فكرة الانفكاك العربي عن القضية الفلسطينية حين قال: «لم يعد لمصر أن تفرض حلاً بالنيابة عن الشعب الفلسطيني بعد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً وحيداً». ويضيف الراشد: أثبتت مشاريع السلام الثنائية أن معظمها فعال وقادر على الاستمرار» ما عدا اتفاق أوسلو، ولم يأت الراشد على ذكر «مبادرة السلام العربية» التي قدمت حلاً وافق عليه جميع الدول العربية بما في ذلك الممثل الشرعي الوحيد والرباعية الدولية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورفضته إسرائيل التي تعمل بقوة كل ما من شأنه منع إقامة دولة فلسطينية. وهي التي اشترطت انفصال النظام المصري عن القضية الفلسطينية، وحذا حذوه دول الامارات والبحرين والسودان والمغرب. وجاء دور المملكة السعودية.. ؟ يقول الراشد : «خلال الشهور التالية ستتضح إمكانية طرح حلول للقضية الفلسطينية ضمن المسعى السعودي، ويستعرض احتمالات تفعيل الحلول المعطلة في اتفاق أوسلو، او العمل على مشروع جديد يعيد تعريف الحكم الفلسطيني، ويتحدث عن  تسهيل السفر الجوي وفك أزمة التنقل البري المذلة والمرهقة، والبحث عن سبل لتعزيز القطاع التجاري الفلسطيني الخاص بفتح الأسواق له وأقل ما يمكن فعله إنقاذ الوضع الإنساني في الضفة وغزة. ويضيف: من المتوقع ان تقدم حكومة نتنياهو خطوات لبناء الثقة بوقف الاستيطان وتعدي المتطرفين على الأماكن الإسلامية، ويختم الراشد بأن السعي وراء حل شامل للنزاع من خلال مشروع واحد مهمة صعبة ان لم تكن مستحيلة في الظروف الإقليمية الحالية». لم يأت الراشد على ذكر الدولة الفلسطينية او ربما كانت هي «المستحيلة». حصاد الشعب الفلسطيني من اتفاقات الدول العربية بدءاً من اتفاقات كامب ديفيد مروراً بالاتفاقات الإبراهيمية واتفاقات السودان والمغرب وصولاً الى الاتفاق السعودي الوشيك وفق مصادر عديدة، كان حصاداً مراً ومريراً. بيد انه لم يكن مفاجئاً قياساً بسيادة فكر الهزيمة لدى الأنظمة التي قادت التحرر الوطني، وبسيادة علاقات تبعية جديدة، المشكلة كانت وما تزال فكر الهزيمة الفلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى