يوميات وزير فلسطيني في حرب غزة… (6) « فنجان قهوتي مملوء بالحصى والتراب »

ترجمة: محمد مستعد

مقدمة:

عند اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، كان الكاتب الروائي ووزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف (1) في زيارة مع ابنه « ياسر » (15 عاما)، إلى القطاع الذي ولد وتربى فيه عاطف أبو سيف. جاء من رام الله في زيارة عمل ولتفقد عائلته، لكنه سيجد نفسه محاصرا مع ابنه. فقرر أن يكتب كل يوم طيلة 3 أشهر ليوثق بدقة عن ويلات هذه الحرب التي خلفت أزيد من 30 ألف قتيل فلسطيني نتيجة القصف الإسرائيلي. هذه المقتطفات من اليوميات، التي تنشرها جريدة « ″، نقلا عن جرائد فرنسية وإنجليزية، كانت لها أصداء عالمية. وستصدر قريبا في كتاب بعد أن استطاع عاطف أبو سيف أن يخرج مؤخرا من قطاع غزة.

الجمعة 17 نونبر 2024

خلال الليلة الماضية اضطررت إلى النوم داخل المدرسة. كنت في زيارة لأختي « حليمة » التي لجأت إلى إحدى المدارس عندما اشتدت الهجمات الإسرائيلية بشكل مفاجئ. انتظرت إلى أن جاء الليل وتراجعت حدة الانفجارات، ولكن فات الأوان ولا يمكنني أن أغامر بالنزول إلى الشارع، لذلك بقيت في داخل المدرسة. قام الناس هنا بخلق حياة جديدة. بعضهم كان يعيش داخل الفصول الدراسية، والبعض الآخر تحت خيام وضعت في الملعب وتمت صناعتها بشكل مرتجل، بواسطة القماش والبطانيات. يوجد في المبنى خمسة حمامات يستعملها مئات الأشخاص. خلال النهار، يصطف الناس لساعات من أجل الدخول إلى المراحيض. وخلال الليل، عندما تنطفئ الأنوار، يستخدمون السطول الموجودة داخل الخيام للتبول فقط. كنا نسمع كل الأحاديث التي تجري داخل الخيام المجاورة لنا. لا توجد أية حياة خاصة هنا.

كانت الساعة تشير إلى حوالي 2 والنصف صباحًا، عندما سقطت قطعة ضخمة من الحطام في فناء المدرسة. اصطدمت قطعة من الخرسانة بالسقف المعدني الموجود فوقنا. فبدأت امرأة تصرخ. استيقظ الجميع. واختلط الليل بالنهار. أسمع صفير الصواريخ والقذائف وأشاهد السماء وهي تضيء من خلال نسيج الخيمة. أبذل قصارى جهدي حتى لا أستعمل الدلو. لكن في حوالي الساعة الرابعة صباحًا، لم استطع مقاومة استعماله.

عند طلوع الفجر، ورغم أن الساعة تكون مبكرة، فإن الجميع يستيقظ. تمتلئ الشوارع بالأشخاص العائدين من « الأماكن الآمنة » التي ناموا فيها بالليل، والذين يعودون إلى منازلهم خلال النهار. وهكذا وبدلاً من أن نقول صباح الخير، نقول: « الحمد لله، أنت آمن ». فكل صباح هو بمثابة هدية، ويوم عطلة إضافي يمنح لنا.

ذهبت إلى المنطقة التي استهدفها القصف في الليلة الماضية، في قلب المخيم (في منطقة جباليا، شمال القطاع). لقد تم تدمير ستة منازل بشكل كامل، وهي لعائلات حجازي، وأبو قسمان، وأبو داير. المئات من الرجال يعملون تحت الأنقاض. ما زال هناك عشرات الأشخاص في عداد المفقودين. كما يجب نقل المصابين إلى المستشفى الإندونيسي بعد أن تمت السيطرة على مستشفى الشفاء المركزي من قبل إسرائيل. وجدت معلمة متقاعدة، وهي جارة أختي عائشة، كانت تبكي بعد مقتل ابنتها الشابة وعائلتها وكانت طبيبة متخصصة في الطب العام. كان هناك أيضا رجل يجمع الكتب المدرسية لأطفاله المفقودين. كان يتمنى أن يموت معهم. هل يمكننا أن نتمنى الموت؟ نعم. يمكنني أن أفهم لماذا كان هذا الرجل، وسط هذا الركام من الأنقاض، يفضل أن يغادر الحياة مع عائلته. قمت بعبور المخيم بكامله من شارع إلى آخر، ومن حي إلى آخر. وهو مخيم كنت أحفظه عن ظهر قلب، لكن لم يعد من الممكن اليوم أن أتعرف عليه، بعد أن تعرضت المباني والآثار والأزقة للمسح تماما من الخريطة.

السؤال الذي يشغل بال الجميع الآن هو أحوال الطقس. كنت وأنا أمشي، لا أملك نفسي من النظر إلى السماء وأنا أبحث عن الشمس. هل يمكنها أن تخترق السحب وتدفع عنا المطر؟ الله يمكنه أن يلغي الشتاء هذه السنة لأننا لا نحتاجها، ولأنها لن تزيد سوى مصيبة على مصائبنا. كان ولدي يمزح ويقول: « ربما يستطيع الله أن يضع حاجزا للمراقبة على الشارع ليمنع وصول الشتاء ».

كنت أكتب هذه المذكرات وأنا في منزل أختي عائشة، لكنني اضطررت، فجأة، إلى الجري من أجل الاختباء في أحد جوانب الغرفة؛ كانت هناك سحابة من الغبار تدخل من النافذة بعد وقوع انفجار، ثم أعقبها سقوط حوالي مائة من الأحجار الصغيرة بعد أن أصاب صاروخ بناية توجد على بعد حوالي 100 متر. يجب أن أختبئ وراء الخزانة، وأن أضع يدي على رأسي. بعد دقائق قليلة، أصبح الهواء في الغرفة صافيًا، وبدأت أرى من شرفة المنزل عمودًا من الدخان يتصاعد من كومة من الأنقاض. هذه الأنقاض كانت قبل ثوانٍ قليلة هي منزل عائلة « العريني ». عدت لأتناول فنجان قهوتي، لكنني وجدته مملوءا بالحصى وشظايا الخرسانة والتراب.

• عاطف أبو سيف كاتب روائي ووزير الثقافة الفلسطيني. يكتب بالعربية والإنجليزية، له كتب في العلوم السياسية، وروايات، منها رواية بعنوان « حياة معلقة ». وكتاب بعنوان  » الدرون يأكل معي » The Drone Eats with Me وهي يوميات كانت تحكي عن حرب 2014 الإسرائيلية على غزة. وصدرت آنذاك بمقدمة للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي.

عاطف أبو سيف هو عضو في الحكومة الفلسطينية في رام الله، علما بأن هناك حكومة موازية بقيادة حركة حماس التي تحكم في قطاع غزة.