اخبار

حرب على التعايش والحل السياسي..مهند عبد الحميد

شاهدنا الأسرى الإسرائيليين الذين أفلتوا من آسريهم في الشجاعية، وهم يتقدمون مستسلمين للشروط التي وضعتها قوات الاحتلال، وهي تعرية الجزء العلوي من الجسم، رفع اليدين إلى الأعلى، ورفع العلم الأبيض.
ولم يسعف الإسرائيليون الأسرى الهاربين من قبضة حماس تقيدهم الكامل بالشروط ولا حتى استغاثتهم باللغة العبرية، فسقطوا قتلى برصاص زملائهم الجنود الذي انهمر عليهم بغزارة ظنا منهم أنهم فلسطينيون.
هذه الحادثة تكشف طبيعة الحرب الوحشية والدموية وعدم الالتزام بقوانين الحرب.
ماذا يعني رفض استسلام مقاتلين؟ بحسب القانون الدولي؟ عندما يلقي الجندي أو المقاتل سلاحه ويرفع يديه مستسلماً لعدوه، يتحول إلى أسير حرب ويحظر إطلاق النار عليه وقتله، ويعتبر قتل الجنود المستسلمين جريمة حرب. ولكن أين الجنود الإسرائيليون وجنرالاتهم ورئيس حكومتهم من القانون الدولي؟ هؤلاء يضعون أنفسهم ويضعهم النظام الدولي العتيد فوق القانون.
ما فعلته آلة الحرب الإسرائيلية من جرائم قتل بحق المواطنين ومن دمار للبنية التحتية ومن تهجير لأغلبية المواطنين خارج بيوتهم، يرقى إلى مستوى تقويض مقومات البقاء ودفع الأمور نحو انهيار المجتمع.
هذا النوع من الدمار والقتل والتهجير بلا رحمة يعني رفض دولة الاحتلال للتعايش مع الشعب الفلسطيني في إطار أي عملية سياسية.
وعندما تحظى أفعال الدولة بتأييد من المجتمع الإسرائيلي فإن الوضع يصبح أكثر تعقيداً.
نعم، الحرب الوحشية والتهديد الوجودي للشعب الفلسطيني يجعل التعايش بين الاسرائيليين والفلسطينيين محط تساؤل ليس فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة وإنما في مناطق الـ 48.  الموقف الإسرائيلي العدمي من الشعب الفلسطيني. لا يمكن عزوه أو تبريره فقط بعملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر.
إنه موجود في الخطاب السياسي والإعلامي وفي الفكر والثقافة الدينية والقومية بما في ذلك مناهج التعليم الإسرائيلية، وفي مشروع الاستيطان المترامي الأطراف.
وجه الغرابة يكمن في الاستجابات الإسرائيلية الحادة، يقول ناحوم برنياع في يديعوت أحرونوت 16/ 12: إن أحداث السبت الأسود قربت دول النفط وإدارة بايدن – ودولاً ومؤسسات عديدة – من رؤية دولة فلسطينية وفي الوقت نفسه أبعدت معظم الإسرائيليين». ولا يقتصر الموقف الإسرائيلي على الابتعاد بل ثمة معارضة للدرس الذي استخلصه العالم والمتمثل بضرورة إيجاد حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر إقامة دولة فلسطينية.
فقد طلب نتنياهو وأركان حكومته وبعض المعارضين أمثال غانتس ولابيد من الرئيس بايدن وإدارته الامتناع عن الحديث علناً عن دولة فلسطينية باعتباره مكافأة لحركة حماس.
منع إقامة دولة فلسطينية قضية القضايا بالنسبة لنتنياهو، الذي يسعى لإقناع نظرائه بأنه رغم كل شيء عليه أن يبقى في منصبه لأنه هو وحده يعرف كيف يمكن أن يعرقل إقامة دولة فلسطينية» كما يقول يوسي بيلين في «إسرائيل اليوم».
يرى شاؤول أرئيلي في «هآرتس» أن الانسداد السياسي واحتدام الصراع إلى مستوى نفي كل طرف للآخر، يعود إلى التحول الذي شهده المجتمعان الفلسطيني والإسرائيلي وأدى إلى تقديم خطاب ديني مسيحاني يرفض الآخر ويرفض المصالحة والتعايش بين الشعبين.
في الطرفين تحارب التيارات الدينية العملية السياسية واتفاق الحل الدائم، أحدهما يعتبر أن هذه الأرض هدية من السماء – أرض إسرائيل التوراتية – والآخر يعتبرها وقفا إسلامياً ملكاً للأجيال ولا يجوز التصرف بها، وترفض الأصوليات العلمانية والديمقراطية والليبرالية وتدعوان إلى دولة الشريعة.  
وتعتبر الأصولية اليهودية أن الاتفاقات السياسية تتناقض مع الوعد الإلهي، ذلك أن أي تنازل عن أي جزء من أرض إسرائيل الكاملة هو مخالف للوعد الإلهي.
وفي الجهة الأخرى تعتبر أرض فلسطين التاريخية وقفاً إسلامياً وستبقى أملاكاً إسلامية.  
يلاحظ أن أريئيلي يساوي بين الأصوليات، صحيح يوجد معتقدات متشابهة ولكنّ ثمة فروقاً كبيرة بينهما.
فالأصولية اليهودية تتقاطع مع يمين ليبرالي علماني دولاني يمثله الليكود بقيادة نتنياهو الذي يستخدم الأصولية اليهودية وأيديولوجيتها في ترجمة أطماع كولونيالية، حيث يتم توظيف الدين عبر التوسع الاستيطاني ونهب الأرض ومواردها، في صيغة التقاء مصالح مع الدولة ومؤسساتها.
الدولة الإسرائيلية ترعى الأصولية وتوفر لها الامتيازات والحماية وتستخدمها وتضعها في خدمة مشاريعها، والأصولية اليهودية بدورها تستخدم الدولة ومؤسساتها.
وفي غياب دولة فلسطينية تغيب عن مشروع الأصولية الفلسطينية المصالح المادية، قد توفر سلطة حماس في قطاع غزة بعض المصالح لكنها لا تقارن بالمصالح لدى الأصولية اليهودية فضلاً عن الطبيعة الكولونيالية للدولة في مقابل وجود الأصولية الفلسطينية في موقع التحرر من الاحتلال.
وفي الوقت الذي أبدت وتبدي فيه حركة حماس مستوى من المرونة في وثائقها وبخاصة وثيقة العام 2017 في ما يتعلق بالحل السياسي، فإن الأصولية اليهودية تزداد تشدداً وتطرفاً سياسياً واجتماعياً وتؤثر سلباً على المجتمع الإسرائيلي.
ويوجد علاقة بين الأصوليتين.  فعندما تعتمد الأيديولوجيا الدينية اليهودية في تبرير وجود إسرائيل واحتلالها واستيطانها وسيطرتها واستحواذها على المكان، وفي قانون القومية، وفي المناهج المدرسية، وفي منظومة القوانين، فإنه من المنطقي أن يحفز ذلك أصولية إسلامية بثقافة وفكر ديني.
يختم أرئيلي بالقول، يجب علينا البحث عن إمكانية التوصل إلى حل وسط على أساس القانون الدولي وقيم الديمقراطية والليبرالية لدى العلمانيين في المجتمعين، وعلى قاعدة التحرر من الحل الشامل الذي إذا تحقق فإن طرفاً من الطرفين سيختفي.
يفهم من ذلك أن الحل الديني يؤدي إلى هزيمة وإقصاء الطرف للآخر، وهذا استنتاج واقعي. وهنا يجدر بنا التوقف عند الموقف من القانون والشرعية الدولية.
كان الشعب الفلسطيني سباقاً في رفض قرارات الشرعية كقرار التقسيم 181 وقرار 242 و338 وغيرها من القرارات، وقد بذل أصدقاء الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير وبخاصة الاتحاد السوفييتي سابقاً والاتحاد الأوروبي والصين جهوداً كبيرة لإقناع المنظمة بالاعتراف بالقانون والشرعية الدولية.
ونجح هؤلاء في إقناع القيادة الفلسطينية. جرى تصوير عدم الاعتراف الفلسطيني بالشرعية الدولية وكأنه العقبة الأكيدة أمام عملية التحرر من الاحتلال.
وعندما اعترفت المنظمة وبخاصة في وثيقة إعلان الاستقلال العام 1988 بكل قرارات الشرعية الدولية وبالقانون الدولي. في تلك المرحلة التي شهدت اعظم انتفاضة سلمية  للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، نشأت ثقافة فلسطينية شعبية تقبل بالحل السياسي الوسط.
ولم يترافق هذا التطور المهم مع تغير في الموقف الإسرائيلي لجهة اعتماد القانون والشرعية الدولية كمرجعية لحل الصراع.
وشيئاً فشيئاً ومع استمرار الاستيطان والسيطرة على الشعب وتعمق الأزمة الاقتصادية، بدأت تلك الثقافة الشعبية بالانحسار والتراجع، وبدأ نوع جديد من الاستقطاب الشعبي، لصالح الإسلام السياسي الذي طرح المقاومة كبديل وطرح الحق التاريخي الفلسطيني المطلق.
لا شك في أن الطرف الرئيس الذي ساهم في انحسار ثقافة الحل السياسي والتعايش والسلام الفلسطينية، هو دولة الاحتلال أثناء وبعد صعود «النتنياهوية» في العام 1996 التي نجحت في تقويض أوسلو، وفي إقناع أكثرية الشعب الفلسطيني بلا إمكانية الحل.
وبعد كل ذلك يتفاجأ الإسرائيليون بنتائج استطلاعات الرأي، ولا يتفاجؤون بالتحولات الكهانية التي نمت وتفاقمت بسبب رئيس هو الاحتلال المزمن والسيطرة على شعب آخر عبر نظام أبارتهايد استعماري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى