اخبار

اخشى على السودان من التفكيك وفرص حميدتي في الانتصار ضئيلة..

من سخريات أحداث السودان أن تعلن وزارة الخارجية الصهيودية أنها على اتصالٍ مع طرفي النزاع المسلح على اعتبار علاقاتها المتواصلة مع الأطراف السودانية و أنها تحثهم على التهدئة! و تزداد السخرية تَعَمُّقاً بمكالمةِ وزير خارجية الولايات المتحدة مع رأسي النزاع، البرهان و دوغلو. و تتخذُ السخريةُ مدخلاً ثالثاً بمبادرةِ الاتحاد الإفريقي لزيارةِ الخرطوم و التي لم تحدثْ لأنَّ المطار لا زال في عين الاشتباكات. ذَرُّ الرماد كان في التصريحاتِ العربيةِ المعبرة عن القلق و الدعوة لوقف الاشتباك وكأن هذا سيحصل لأن مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين، الذي لم يحضره أمين عام الجامعة، توافق على الشأن الداخلي للاقتتال و طالب بوقف القتال. و كان من المُحْزِن حقاً إهانة الفرقة المصرية بأكثرِ من طريقةٍ و كلمةٍ. كيف يكونُ هذا القتالَ الشائن شأناً داخلياً و العالم بما فيه الصهيوديين يتكلمون مباشرةً مع الأطراف المتقاتلة و كأنهُ شأنهم؟ كيف هو شأنٌ داخليٌّ لبلدٍ عربي هو جسرٌ بين قارتين و بين العرب و أفريقيا و ما يحدثُ و حدثَ فيه وصلتْ ارتداداتَهُ لمن حوله عبر القارات؟ عجيبٌ هذا التفكيرُ العربي الذي يبدو تائهاً و لكنه ليس العجيبَ الوحيد.
لم يكن دوغلو/حميدتي في تاريخهِ الأسود إلاَّ مخلباً أُسْتِخْدِمَ لقمع أيِّ و كلِّ معارضٍ للحكومة في دارفور بدايةً. قطعانَ الجنجويد، أو الجن الذي يركب الجواد، الذي صار الدعم السريع، امتازوا بعقيدةِ الإفناء للقرى و الأهليات والمخيمات. إِحرقْ، إنهبْ، أسبي و بالطبع أَخِفْ و اقتل. كان هذا هو المبدأً الغوغائي الذي لم يختلف عن أسلوب عصابات الصهيودية في فلسطين أو داعش في سوريا و العراق أو جيش الرب في أوغندا. كانت مجرد الإشاعة أن الدعم السريع شوهد بمنطقةٍ بدارفور كفيلةً بهروب الآلاف من المواطنين العُزَّل و المساكين عبر الصحاري. و قد شهدتُ هذا بعيني. باختصارٍ شديدٍ، الجنجويد أو الدعم السريع عصابةٌ كان حَرَّياً أن تُوَصَّفَ كما باقي الجماعات الخارجة عن القانون و التي يجب أن يُسأل عنها ليس فقط البشير بل دوغلو/حميدتي و أركانهُ، و أن تُحاسبَ حساباً عسيراً. و كذلك البرهان الذي كان قائداً في الجيش الذي سمح للتدخل السريع أن يتغلغل و يستقوي ثم يتحالف و يصبح قائد ثورة التهمت الحكم المدني الموعود و هو يحبو و نفت رئيس وزراءه عبدالله بحمدوك خارج السودان.
أما الآن فالأمور تعود لأصولها. و لها أصلٌ واحدٌ هو جوع السلطة. فعلها البشير قبل ذلك حينما تهاوى من حولهِ قادة الثورة التي أتت بهم للحكم بعد الانقلاب على حكومة الصادق المهدي بل و زعيمها الروحي حسن الترابي الذي رُمِيَ في السجن. ويريد اليوم البرهان و دوغلو أن يُعيدا التاريخ بإزالةِ واحدٍ منهما. ببساطةٍ أثبتها مسارَ  الانقلابات العربية فإن كلاهما سيفعلا المستحيل لكي ينتصر أحدهما في معركةِ كسر العظم هذه لأنه لا مكان للإثنين معاً بعد الآن في السودان لا على صعيد الأشخاص أو لمؤسسة الدعم السريع. إن انتصر دوغلو فسينطوي الجيش السوداني تحت مظلةٍ بائسةٍ يرأسها فِكرْ الدعم السريع، و هو فكرٌ همجيٌ بالسليقة و التدريب. و إن انتصر البرهان فسيذوب الدعم السريع في الجيش قسراً و اختياراً و سينتهي دوغلو  قتيلاً أم مسجوناً أم منفياً بدولةٍ تقبلهُ أم خارجاً مطارداً في أرجاء السودان كحركةٍ متمردةٍ. و هنا مكمن الخطر.
لم تتحرك الحركات المتمردة التي انضوت تحت مظلة الحكم في الصراع الدائر. هي تنتظر لترى من سينتصر لتحديد موقفها. لكن كل الاحتمالات مفتوحة على انفلاتٍ يؤججُ فكرة الانفصال لأجزاء من السودان بقيادة هذه الحركات أو غيرها من الآملين. و هذا كان و يبقى لُبَّ و مكمن الخوف على السودان أن يتشظى. فكيف لو نجح دوغلو الهارب بتشكيل فصيلهِ المتمرد و بدأ من جديد حركةً سترمي السودان في  دوامة الحروب الانفصالية. من جديد، المركز و هو الخرطوم و الأطراف في الولايات تغلي و تسعى لمصلحتها. ثروات السودان يسيل لها لعاب الداخل و الخارج و هنا مكمن الخطر الثاني. التدخلات الخارجية لن تتحلَّى بالصبر و الأدب و تترك السودان بل ستنقض عبر التحالفات لنصرة هذا و ذاك طمعاً بالدفينِ من الثروةِ و النفوذ المتزايد التنافس في قارةِ الثروات. تماماً كما كان الحال في السبعينات. بانفصال جنوب السودان خسر السودان ربع مساحتهِ و ثلاثةَ أرباع ثرواته. فكيف بانفصالِ دارفور، مثلاً؟

قد يكونَ هناك ثغرةٌ من أملٍ أنه إن خرج البرهان منتصراً أن يَتَّعِظَ و يعود بالسودان للحكمِ المدني، فهو عسكريٌ و يعلم أن الجيشَ مكانه ليس في قيادة دولة تنهض و تنمو بل بحمايتها بالتوافق مع الخبراء من أركان الدولة. لا أعلم كيف سيكون السودان لو انتصر دوغلو أو بمعجزةٍ عاد لتوافقهِ مع البرهان، و لو أنني لا أعتقد أنه سيخرج منتصراً. الرهانُ الواقعي هو على البرهان و الجيش لأنهما مهما قيلَ يبقيان مؤسسةَ دولة لا عصابةً من قطاع الطريق و ينبغي عليهما تسليم الدفة للمدنيين دون تسويفٍ.
دبلوماسي أُممي سابق
الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى