اخبار الإمارات

تكاليف المعيشة تُثقل كاهل القارة العجوز

ت + ت الحجم الطبيعي

يرى نصف الأوروبيين، تقريباً، أن «تكاليف المعيشة، وارتفاع الأسعار، والتضخم» على رأس أبرز القضايا، التي تواجه بلدانهم.. هذا ما أظهرته نتائج استطلاع أجرته «المفوضية الأوروبية» أخيراً، فيما تناقلت تقارير إعلامية بيانات تشير إلى أن أبناء القارة العجوز «يزدادون فقراً»، ويواجهون واقعاً اقتصادياً جديداً، لم يشهدونه منذ عقود مضت. 

ورغم تباطؤ معدلات التضخم في أوروبا تعكس تلك التقارير تفاقم أزمة تكاليف المعيشة على نحوٍ متسارع، تحت وطأة الضغوطات الاقتصادية الناجمة عن سلسلة متتابعة من الأزمات، بداية من جائحة «كوفيد 19»، وصولاً إلى الحرب الأوكرانية، وتداعياتها الاقتصادية واسعة المدى. 

الفرنسيون يقللون من استهلاك الـ«foie gras» (طبق فاخر شهير في المطبخ الفرنسي من كبد الأوز)، بينما الإسبان (الذين تشتهر بلادهم بكونها أكبر منتج ومصدر لزيت الزيتون في العالم) يتقشفون في استخدام زيت الزيتون. وفي ألمانيا تراجع استهلاك اللحوم والحليب إلى أدنى مستوى في ثلاثة عقود، كما انهارت السوق المزدهرة للأغذية العضوية، فيما تعاني إيطاليا من ارتفاع أسعار المعكرونة (المكون الرئيس المفضل بالبلاد، الذي تشتهر به روما) بأكثر من ضعف معدل التضخم الوطني.

شواهد عديدة لانعكاسات أزمة تكلفة المعيشة على الأوروبيين، وعادات غذائية بدأت تتراجع تحت وطأة الضغوطات الواسعة، التي تتعرض لها الاقتصادات الأوروبية، التي لم تفلح حتى الآن الحلول الحكومية، والسياسات المالية والنقدية المتبعة، في التعامل معها على نحو يعيد الاطمئنان للشارع الأوروبي، في ضوء ارتفاع معدلات التضخم، وتفاقم أزمة غلاء المعيشة، بما يهدد الأوروبيين بفقدان عاداتهم التقليدية، ويزيد من معدلات الفقر بشكل لافت. يأتي ذلك في وقت يشعر الأوروبيون بأن قوتهم الشرائية تتلاشى، وأن النموذج الأوروبي يفقد بريقه سريعاً، تبعاً لتلك الضغوطات الاقتصادية، وفي ظل تراجع الإنفاق الاستهلاكي، وشبح الركود، الذي يهدد عدة بلدان أوروبية، بعد أن سقطت في «فخّه» ألمانيا (أكبر اقتصاد أوروبي). 

قضايا التضخم

وأظهرت نتائج استطلاع المفوضية الأوروبية أن 45 % من المشاركين وضعوا قضايا التضخم وارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة على رأس القضايا الرئيسة بالبلاد، متفوقة في ذلك على قضايا الوضع الاقتصادي العام والبيئة والمناخ والهجرة والصحة وحتى المخاوف المرتبطة بشأن إمدادات الطاقة بالبلاد، والتي وضعها 12% فقط من مواطني دول الاتحاد الأوروبي المشاركين كونها قضية رئيسية، وقد جاءت في المرتبة السادسة.

أظهر الاستطلاع تفاوتاً ملحوظاً بين الأوروبيين في تقييم الوضع الاقتصادي، إذ يرى 44 % منهم أن الوضع الاقتصادي بدول أوروبا «سيئ»، مقابل 45 % يرون أن الوضع جيد، كما عكست نتائج الاستطلاع تأثر حجم الثقة بالاتحاد الأوروبي، تبعاً لتلك المتغيرات، إذ أبلغ 45 % من سكان التكتل أنهم لا يثقون به، مقابل 47 % عبروا عن ثقتهم.

عوامل تفاقم الأزمة 

تقول أستاذ العلوم السياسية، المدير المؤسس لبرنامج الدراسات الأوروبية في جامعة «ڤيكتوريا»، آمي فيردون لـ«البيان»: إن معدلات التضخم ظلت في ارتفاع منذ بداية 2021، وبدأت فقط في التباطؤ، منذ مطلع 2023، لكنها لا تزال مرتفعة عند حدود 5.5 %، مقارنة بالمستهدف عند 2 %. 

وتبيّن أنه يمكن إرجاع سبب ارتفاع التضخم في أوروبا (وأجزاء كثيرة من العالم) إلى الطريقة التي تعاملت بها الحكومات مع وباء «كورونا»، والاضطراب الذي أحدثه في سلاسل التوريد العالمية، والتغيرات في سوق العمل، ثم في 2022 تأثير الحرب الأوكرانية (التي أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة). لقد شعر المستهلكون بزيادة التضخم، لأن الغذاء والطاقة يشكلان جزءاً كبيراً من استهلاكهم اليومي.

حاولت البنوك المركزية بجدية خفض التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة، وهو إجراء موازنة صعب، لأنه مع ارتفاع أسعار الفائدة تنخفض الأسهم والسندات، ويصبح الاقتراض والرهون العقارية أكثر تكلفة. هذه الخيارات يمكن أن تبطئ الاقتصاد. 

على مدى الأشهر القليلة الماضية انخفض التضخم في جميع أنحاء أوروبا، ومع ذلك لا تزال الأسعار الحقيقية أعلى بكثير مما كانت عليه قبل أن تبدأ في الاتجاه الصعودي القوي. على سبيل المثال، مقارنة بمتوسط الأسعار في 2019، لا يزال عديد من المستهلكين يدفعون أسعاراً تزيد 20 %. في البلدان الواقعة وسط أو شرق أوروبا، خصوصاً تلك التي لم تنضم إلى «اليورو» (مثل: التشيك، والمجر، وبولندا)، تكون الأسعار أعلى من ذلك.

وتوضح فيردون أنه ليس كل الناس في أوروبا بدأوا هذه الأزمة في الوضع نفسه. أولئك الذين هم في الطرف الأدنى من طيف الدخل يدفعون جزءاً أكبر من دخلهم على الغذاء والطاقة. لقد تضرر هؤلاء الأشخاص بسبب أزمة تكلفة المعيشة أكثر من أولئك الأكثر ثراء.

عدم وضوح

وتضيف: إنه على الرغم من عدم وضوح «حدود» أزمة غلاء المعيشة، إلا أن المؤكد كانت هناك تداعيات للوضع، فما رأيناه أخيراً هو أعمال شغب في فرنسا على سبيل المثال، ورغم أن هذه الأعمال كانت رداً على وحشية الشرطة، لكن الأرضية التي غذتها كانت مرتبطة بعدم الرضا الاجتماعي عن تكلفة المعيشة، والتمييز، ونقص الفرص للأقليات في فرنسا، كما كانت هناك احتجاجات حول المعاشات التقاعدية، يمكن أيضاً إرجاعها إلى حالات الإحباط المرتبطة بتكلفة المعيشة.

وترى فيردون أنه «في الاتحاد الأوروبي، تقع مسؤولية أزمة تكلفة المعيشة في المقام الأول على عاتق الحكومات الوطنية (..)»، بالنظر إلى السياسات التي تتبعها.

في السياق كشف تقرير حديث للمركز الأوروبي للاقتصاد الدولي جانباً من حجم الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة، منبهاً إلى أنه ما إذا استمرت الفجوة في مستوى المعيشة فإنه بحلول 2035 سوف تتسع لتصبح كما هي الحال بين أوروبا والهند الآن.  وطبقاً للتقرير ذاته، الذي قارن بين الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في أوروبا والولايات المتحدة، ثمة اختلال واضح، وفجوة تتزايد منذ مطلع الألفية، لكن التقرير يعتقد أن ثمة فرصاً أمام أوروبا للخروج من النفق المظلم، ومواجهة تحديات النمو، تتضمن التعامل مع التحديات القائمة فيما يتعلق بتغير المناخ، والتحول الرقمي، والعبء المتزايد لمعدل الشيخوخة، وميزانيات الدفاع المرتفعة، لاستعادة القدرة التنافسية.

حرب أوكرانيا

من لندن يصرح الكاتب والباحث، عضو حزب العمال البريطاني، مصطفى رجب لـ«البيان» أن أزمة غلاء المعيشة تضرب الدول الأوروبية، تحت وطأة عوامل عدة، لا سيما المرتبطة بنتائج الحرب الأوكرانية، بينما بريطانيا تتفرد بعوامل أخرى، «إضافية»، تعزز من أثر الأزمة عليها، خاصة العامل المرتبط بتداعيات خروجها من الاتحاد الأوروبي، وانعكاسات ذلك على تفاقم الوضع الاقتصادي.

فرضت تلك الأزمات تحديات واسعة أمام الاقتصاد الأوروبي، لا سيما فيما يتعلق بالاضطرابات، التي ضربت سلاسل التوريد العالمية، إضافة إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء إلى مستويات قياسية، ليجد الأوروبيون أنفسهم أمام ضغوطات تضخمية متفاقمة، مع تسارع وتيرة ارتفاع تكاليف المعيشة، بما أدى لخفض القوى الشرائية، وتراجع الاستهلاك بشكل كبير، في ظل عدم ملاءمة الأجور لحجم طفرة الأسعار.

ويوضح رجب أن «الحكومة البريطانية، على سبيل المثال، تتبع سياسة متعنتة في تعاطيها مع الأزمة الراهنة، تبدو من خلال تصريحات رئيس الوزراء، ريشي سوناك، الذي لا يزال يؤكد بقاء الأمر الواقع، ويدافع عن السياسات المتبعة، بينما الإضرابات تعم المملكة المتحدة، وتضرب قطاعات رئيسة بالبلاد، لا تستثني قطاعاً ربما سوى «البوليس».

كان مسح أجراه مكتب الإحصاء الوطني في بريطانيا قد أظهر أن أكثر من ربع الأسر ذات العائل الواحد «نفد منها الطعام في الفترة الأخيرة، ولم يعد لديها ما يكفي لشراء المزيد»، في وقت تشير إحصاءات صادرة عن هيئة تجارة التجزئة البريطانية إلى أن أسعار يونيو الماضي كانت أعلى 15% تقريباً، مقارنة بيونيو العام الماضي. ويضيف: إن «غلاء المعيشة» أزمة عامة في أوروبا، يعاني منها الناس بشكل كبير، وتنعكس على تفاصيل الحياة اليومية، مبيناً أن «الأزمة تدخل مراحل جديدة (في إشارة لتفاقمها على نحو أوسع في ضوء تبعات التطورات الاقتصادية والسياسية)»، رغم تباطؤ معدلات التضخم بشكل نسبي.

وفي بريطانيا القضية مركبة إلى حد كبير، تتفاقم الأزمة في ظل نقص المعروض بشكل ملحوظ، في إطار تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفق رجب، الذي ينوه بأن «بقاء حكومة المحافظين هو نتاج فشل حزب العمال في تقديم بديل قوي، وعدم تعامل الحزب بالطريقة السليمة والقوية، التي تجبر الحزب الحاكم على احترام الناس وأوضاوعهم»، على حد قوله.

وتراجع معدل التضخم بمنطقة «اليورو» في يونيو الماضي، مع انخفاض تكاليف الطاقة، رغم استمرار ارتفاع أسعار أغالبية المواد الغذائية، والمشروبات ما زالت مرتفعة، مع تباطؤ وتيرة ذلك الارتفاع، إذ ارتفعت المواد الاستهلاكية بنسبة 5.5 %، مقارنة بـ6.1% في سابقه مايو، بحسب بيانات وكالة «يوروستات»، التابعة للاتحاد الأوروبي. بينما لا يزال التضخم فيه أعلى بكثير من هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 %.

في المتوسط، ارتفعت أسعار المياه، والطاقة، 18 % العام الماضي، وزادت تكاليف النقل 12%. اعتباراً من يناير 2023، كانت الأسرة المتوسطة تنفق أكثر عن 47 % من دخلها على فواتير الأسرة، والنقل، والغذاء، وهي الزيادات الثلاثة الأكثر حدة. 

وبحسب بيانات «يوروستات»، فإن تدهور مستويات المعيشة الأسرية يأتي في نحو نصف دول الاتحاد الأوروبي، في حين أن معدل البطالة في التكتل لا يزال عند مستوى قياسي منخفض يبلغ 6 %، انخفض متوسط الدخل المتاح بالقيمة الحقيقية (أي مع الأخذ في الاعتبار ارتفاع تكلفة المعيشة) بنقطتين مئويتين بين عامي 2021 و2022.

تبعات سياسية 

من باريس يؤكد الكاتب الصحافي، المتخصص في الشؤون الأوروبية، نزار الجليدي لـ«البيان» أن التبعات السياسية المحتملة لتلك الأزمات المرتبطة ارتباطاً مباشراً بأثر الحرب الأوكرانية، والسياسات الأوروبية المتبعة إزاء تلك الحرب، ويقول: إن أزمة التضخم في فرنسا والبلدان الأوروبية، وما يصاحبها من غلاء معيشي «أصبحت الاختبار الأكبر أمام الحكومات، وأمام أصوات عالية تطالب بالتغيير (سياسي واقتصادي)، خصوصاً في ظل أثر الأزمات المتتالية».

ويعتقد الجليدي أن «ارتدادات الحرب قوية جداً في أوروبا على الجانب المعيشي اليومي، بما يتطلب مراجعات واضحة، سواء سياسية، واقتصادية أخرى، تبدو بعيدة المنال أمام معدلات التضخم المرتفعة، وأمام فقر الطاقة الذي يضرب القارة، وكذلك فقر الإنتاج (في ظل تأثر القطاعات الأساسي، بما في ذلك القطاع الصناعي) الأوروبي».

ويمثل الاتحاد الأوروبي الآن نحو 18% من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي العالمي، مقارنة بـ28% للولايات المتحدة الأمريكية، بينما قبل 15 عاماً كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يمثلان نحو رُبع المجموع.

إلى ذلك حذر صندوق النقد الدولي من التضخم «المرتفع باستمرار» في منطقة «اليورو»، ودعا إلى استمرار الزيادات لأسعار الفائدة، قائلاً: إن ذلك «سيكون ضرورياً خلال «فترة مستدامة»». وأضاف، في تقرير عن اقتصاد الكتلة، إنه يجب على الدول الأعضاء في منطقة «اليورو» أيضاً كبح جماح عجز ميزانياتها.


تابعوا البيان الاقتصادي عبر غوغل نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى